فصل: قال في صفوة التفاسير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ قَلِيلٍ بِالْفَمِ لِيُعْرَفَ طَعْمُهُ فَلَا يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الْعَذَابِ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ أَوْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ اهـ.
وَلَسْتُ أَدْرِي مَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ يُسَمَّى أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ {يَذُوقُوا} وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْقُرْآنُ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي الْعَذَابِ كَثِيرًا! فَاخْتِيَارُهُ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَشَدُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَهْمَا كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ الْمُعَذَّبِينَ شَدِيدًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الشِّدَّةِ كَأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ ذَوْقِ طَعْمِ الرَّحْمَةِ؛ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِمْ مَوْثِقٌ مِنَ اللهِ بِنَجَاتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ.
{إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَجَعَلَ سُنَّتَهُ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا مُطَّرِدَةً لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَغْلِبَهُ فَيَبْطُلَ اطِّرَادُهَا؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} جَعَلَ دُخُولَ الْجَنَّةِ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ إِذِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَكْفِي لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمَرْءُ عَقِبَ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِظُهُورِ آثَارِ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ سَوْفَ أَبْلَغُ مِنَ السِّينِ فِي التَّنْفِيسِ وَسِعَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْمُضَارِعِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَيَرَى ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَاعِدَةِ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَتْ سَوْفَ أَكْثَرَ حُرُوفًا كَانَ مَعْنَاهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ أَوْسَعَ، وَلَا يَدَ عَلَى هَذَا مِنْ نُكْتَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} وَعَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: {سَنُدْخِلُهُمْ} وَكَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْفَرِيقَيْنِ يُعَجِّلُ لِأَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ وَلَا يُعَجِّلُ لِأَهْلِ الْعَذَابِ عَذَابَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ وَقْتِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْخُلُودُ: طُولُ الْمُكْثِ، وَأَكَّدَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: {أَبَدًا} أَيْ: دَائِمًا.
{لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قَالُوا: أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعُيُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، أَيْ: سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2: 25]، وَهُنَاكَ كَلَامٌ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْنَى مُصَاحَبَتِهِنَّ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَيْسَ كَعَالَمِ الدُّنْيَا.
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} قَالَ الرَّاغِبُ: الظِّلُّ أَعَمُّ مِنَ الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: ظِلُّ اللَّيْلِ وَظِلُّ الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ الشَّمْسُ: ظِلٌّ، وَلَا يُقَالُ: الْفَيْءُ، إِلَّا لِمَا زَالَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ، وَيُعَبَّرُ بِالظِّلِّ عَنِ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعَنِ الرَّفَاهَةِ، وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ كَلَامِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِمْ: أَظَلَّنِي فُلَانٌ أَيْ: حَرَسَنِي وَجَعَلَنِي فِي ظِلِّهِ أَيْ: عِزِّهِ وَمَنَعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَظِلٍّ ظَلِيلٍ أَيْ: فَائِضٍ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا كِنَايَةٌ عَنْ غَضَارَةِ الْعَيْشِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ هِيَ السَّبَبُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لَفْظَ الظِّلِّ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، وَالظِّلُّ صِفَةٌ اشْتُقَّتْ مِنْ لَفْظِ الظِّلِّ يُؤَكَّدُ بِهَا مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، أَيْ: ظِلٌّ وَارِفٌ فَيْنَانُ، لَا يُصِيبُ صَاحِبَهُ حَرٌّ، وَلَا سَمُومٌ، وَدَائِمٌ لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ كَمَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِدُّهُ وَثَنَاؤُهُ. اهـ.

.فوائد بلاغية:

.قال أبو حيان:

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع.
الاستفهام الذي يراد به التعجب في: ألم تر في الموضعين.
والخطاب العام ويراد به الخاص في: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ابن صوريا وكعبًا وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول.
والاستعارة في قوله: {من قبل أن نطمس وجوهًا}، في قول من قال: هو الصرف عن الحق، وفي: ليذوقوا العذاب، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب.
والطباق في: {فنردّها على أدبارها}، والوجه ضد القفا، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا، وفي: إن الذين كفروا والذين آمنوا، وفي: من آمن ومن صدّ، وهذا طباق معنوي.
والاستطراد في: {أو نلعنهم كما لعن أصحاب السبت}.
والتكرار في: يغفر، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وفي: فمنهم ومنهم، وفي: جلودهم وجلودًا، وفي: سندخلهم وندخلهم.
والتجنيس المماثل في: نلعنهم كما لعنا وفي: لا يغفر ويغفر، وفي: لعنهم الله ومن يلعن الله، وفي: لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي: يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى.
والتعجب: بلفظ الأمر في قوله: {انظر كيف يفترون}.
وتلوين الخطاب في: يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلامًا أنهم مستمرون على ذلك.
والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في: {أم لهم نصيب} وفي: {أم يحسدون}.
والإشارة في: أولئك الذين.
والتقسيم في: {فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه}.
والتعريض في: {فإذن لا يؤتون الناس نقيرًا} عرض بشدة بخلهم.
وإطلاق الجمع على الواحد في: أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع.
والكثرة في: {سوف نصليهم نارًا}.
والاختصاص في: {عزيزًا حكيمًا}.
والحذف في: مواضع. اهـ.

.قال في صفوة التفاسير:

البلاغة:
تضمنت الآيات من الفصاحة والبلاغة والبديع ما يلي:
1- المجاز المرسل في {أم يحسدون الناس} المراد به محمد صلى الله عليه وسلم من باب تسمية الخاص باسم العام، إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جمعت فيه كمالات الأولين والآخرين.
2- الاستعارة في {يشرتون الضلالة} وفي {ليذوقوا العذاب} لأن أصل الذوق باللسان، فاستعير إلى الألم الذي يصيب الإنسان، وفي {ليا بألسنتهم} لأن أصل اللى: فتل الحبل، فاستعير للكلام الذي قصد به غير ظاهرة، وفي {نطمس وجوها} وهي عبارة عن مسخ الوجوه تشبيها بالصحيفة المطموسة التي عميت سطورها وأشكلت حروفها.
3- الاستفهام الذي يراد به التعجب في {ألم تر} في موضعين.
4- التعجب بلفظ الأمر في {انظر كيف يفترون} وتلوين الخطاب في {يفترون} وإقامته مقام الماضي للدلالة على الدوام والاستمرار.
5- الاستفهام الذي يراد منه التوبيخ والتقريع في {أم لهم نصيب} وفي {أم يحسدون}.
6- التعريض في {فإذا لا يؤتون الناس نقيرا} عرض بشدة بخلهم.
7- الطباق في {وجوه.. وأدبار} وفي {آمنوا.. وكفروا}.
8- جناس الاشتقاق في {نلعنهم.. ولعنا} وفي يؤتون.. وآتاهم وفي {ظلا ظليلا}.
9- الإطناب في مواضع، والحذف في مواضع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {والذين آمَنُواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أظهرُهَا: أنه مبتدأٌ، وخبرُهُ {سَنُدْخِلُهُمْ}.
والثاني: أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ؛ عَطْفًا على اسْمِ إنَّ وهُوَ {الذين كَفَرُواْ}، والخَبَرُ أيْضًا: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ: إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وعمرًا قَاعِدٌ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ، والمرفوعَ على المرفوعِ.
والثالث: أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع؛ عطفًا على مَوْضِعِ اسْم إنَّ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ، قالهُ أبُو البَقَاءِ؛ وفيه نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ، حَيْثُ يُقالُ: {والذين آمَنُواْ} في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ عطفًا على {الذين كَفَرُواْ}، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً بإن؛ تنبيهًا على شِدَّةِ ذلك، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة تنبيهًا على قُرْبِ الوَعْدِ.
قوله: {سندخلهم} قَرَأ النَّخعِيُّ: سَيْدخلُهم، وكذلك: {ويدخلهم ظلًا} بِيَاءِ الغَيْبَةِ؛ رَدَّا على قوله: {إن الله كان عزيزًا}، والجمهورُ بالنون رَدًّا على قوله: {سوف نصليهم}، وتقدَّم الكلامُ على قوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار}.
وقوله: {خَالِدِينَ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُهَا: أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في {سَنُدْخِلُهُمْ}.
والثَّاني: وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ: أنْ يكونَ حالًا من {جَنَّاتٍ}.
قال: لأن فيها ضميرًا لكُلِّ واحدٍ منهما، يَعْنِي: أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالًا من مفعول {سَنُدْخِلُهُمْ} كما تقدَّمَ، أوْ من جنات؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ:
أحدُهُمَا: مَجْرُورٌ بفي العائِدِ على {جَنَّاتٍ} فصح أنْ يُجْعَلَ حالًا مِنْ كُلٍّ واحدٍ؛ لوجودِ الرَّابِطِ، وهو الضميرُ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدُهُمَا: أنه يَصِيرُ المعنى: أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائد عليْهَا. فكأنه قِيلَ: جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا.
والثَّاني: أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ، ولو أُرِيد ذلك، لقيل: خَالِدَاتٍ.
والثالثُ: أنْ يَكُونَ صِفَةً لـ {جَنَّاتٍ} أيضًا. قال أبُو البَقَاءِ: على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَتْ الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى، ولم يَبْرُزُ الضَّمِيرُ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ، وهو أنَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له، وأمِنَ اللِّبْسُ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ.
ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ: وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقًا، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَْهلِهمْ: {خالدين هم فيها}، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك.
[فإن قُلْتَ:] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ، أعني: أنَّكَ إذا جعلت {خَالِدِينَ} حالًا من {جَنَّاتٍ}، فيكون حَالًا مِنْهَا لفظًا، وهي لغيرها مَعْنَى، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ.
فالجواب: أنَّ هذا، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّدًا، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ، دون الحالِ.
قوله: {لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} مبتدأ وخبر، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ.
فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ {جَنَّاتٍ}، أو مِنْ الضَّميرِ في {سَنُدْخِلُهُمْ} وإما على كَوْنِهَا صِفَةً لـ {جَنَّاتٍ} بعد صِفَةٍ.
والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. اهـ. بتصرف يسير.